بالعودة إلى معاجم اللغة العربية تجد أن كلمة الدولة مشتقة من مادة "دَوَل" وهي تطلق بمعانٍ عدة، ومنها:
بالضم: انقلاب الزمان، والعقبة، وبالفتح: في الحرب، أو هما سواء أو الضم في الآخرة، والفتح في الدنيا. والدولة: الحوصلة، والشقشقة وشيءٌ مثل المزادة، والقانصة.
والإدالة: الغلبة، ودالت الأيام: دارت، والله تعالى يداولها بين الناس.
والدول: لغة في الدَلو، وانقلاب الدهر من حال إلى حال، وبتحريك "الدول": النبل المتداول.
وفي "الصحاح" للجوهري: الدولة في الحرب أن تدال إحدى الفئتين على الأخرى، والدولة "بالضم" في المال والجمع دُوْلات ودُوَلٌ، وقال أبو عبيدة: الدُولةُ بالضم: اسم الشيء الذي يُتداول به بعينه، وبالفتح الفعل، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد.
وبهذا نلحظ أن لفظة الدولة في اللغة تطلق بإزاء الأمور التالية:
1- تغير الزمان، ودورانه، وتحوله من حال إلى حال.
2- عاقبة الأمر ومآله ومنتهاه.
3- الغلبة والانتصار على العدو.
4- اسم لعدة أشياء يتداولها الناس، كالمزادة ضيقة الفم، والقانصة، وجانب البطن، والدلو، والنبل وغيرها.
ويذكر بعض أساتذة السياسة أن ثمة ما يقارب مائة وخمسين تعريفاً للدولة، ويعتبر هذا المفهوم الدولة من المفاهيم القديمة التي وجدت على أرض الواقع وصارت حقيقة معاينة، قبل أن يتم الاصطلاح على هذه الكلمة "الدولة" للدلالة على ذلك المفهوم.
وقد جرى استخدام مصطلح "الدولة" عند الكثير من التيارات والمذاهب المعاصرة، واختلف معناها بحسب الدائرة الفكرية التي استخدم فيها، ولعلنا نجول في معاني هذا المصطلح من خلال الدوائر الفكرية التالية:
الدولة في الفكر الإسلامي:
أشار الإمام الطبري إلى أن أول مرة استعمل فيها العرب هذا المصطلح كانت فيما ورد في خطبة الحسن بن علي وهو يدعو أهل الكوفة إلى بيعته بقوله: وأن لهذا الأمر مدة والدنيا دول.
وكذلك ما جاء في قول أبي العباس السفاح مخاطباً أهل الكوفة أيضاً: أنتم محل محبتنا...، وأتاكم الله بدولتنا.
ثم توسع استخدام هذا المصطلح عند العرب إجمالاً في كتاباتهم التاريخية والأدبية، حتى جاء العلامة عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته مقرراً لهذا المفهوم في كثير من عباراته.
ومن ذلك قوله:" فالإنسان مدني بطبعه، أي: لابد له من الاجتماع الذي هو المدينة،..." وتم عمران العالم، فلابد من وازع يدفع بعضهم عن بعض، فيكون ذلك الوازع واحداً منهم، تكون له الغلبة، والسلطان، واليد القاهرة، حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك، وأنه لابد للبشر من الحكم الوازع وذلك الحكم يكون بشرع مفروض.
فهو هنا يشير رحمه الله إلى أهم مكونات الدولة من الشعب الذي أشار إليه بقوله:" الإنسان مدني بطبعه، أي لابد له من الاجتماع الذي هو المدينة، وكذلك الحاكم الذي وصفه بأنه "تكون له الغلبة والسلطان، واليد القاهرة".
ثم الدستور أو المنهج الذي يحتكمون إليه، والذي سماه "بالشرع المفروض" ثم شاع استعماله بعد ذلك لدى الكثير من الباحثين والعلماء.
فهذه العبارات تدلنا على أن هذا المعنى كان معروفاً عند العرب، ومستقراً في استعمالاتهم اللغوية، وإن لم تشكل حدوده النهائية بصفتها النهائية.
وربما غلب على الحكم في هذه الدول أن يكون وراثياً، يخلف الأبناء فيه الآباء، وهو الملك العضوض الوارد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير، أنه عليه الصلاة والسلام قال: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون ملكاً عاضاً، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون ملكاً جبرية، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة.
والخلافة على منهاج النبوة لها معالم وملامح، منها إقامة المبادئ الإنسانية بين الناس، كالعدل، والشورى، والمساواة والحرية، واحترام الكرامة.. إلخ وقد جاء في دائرة المعارف بهذا المعنى: "الدولة سلسلة الملوك المتتابعة في مملكة ما، من عائلة واحدة ثم بعد ذلك شاع استخدام هذا المصطلح في كتابات الكثير من الباحثين، متأثرين بالمدارس الفكرية التي ينتمون إليها، وهكذا كانت بداية نشوء مصطلح "الدولة" وشيوع استعماله وانتشاره بعد ذلك في الفكر العربي والإسلامي.
الدولة في الفكر الغربي:
وفي الفكر الغربي، فيمكن القول بأن بداية هذا المفهوم كانت مع كتابات الفيلسوف اليوناني أفلاطون: الذي كان يرى بأن الدولة هي جماعة من الناس الأحرار المتساوين يرتبطون فيما بينهم بأواصر الأخوة، ويطيعون ـ لبقاء النظام في المدينة ـ الحكام المستنيرين أولي الرعاية والحزم، الذين اتخذوهم رؤساء ويخضعون للقوانين التي ليست إلا قواعد العدل ذاته.
ثم درج بعد ذلك استعمال هذا المصطلح في كتابات الكثير من الفلاسفة والمؤرخين الغربيين، وعند التأمل في كتابات الفكر الغربي الحديث، فإن مفهوم الدولة في الفكر الليبرالي يختلف عنه في الفكر الشيوعي الاشتراكي وذلك بناءً على النظرة العامة لكل من التيارين.
الدولة في الفكر الشيوعي الاشتراكي:
أما مفهوم الدولة في الفكر الشيوعي الاشتراكي يقوم على فكرة الصراع الطبقي، "ولذلك فالدولة في رأي إنجلز هي الخلاصة الرسمية للمجتمع، أيًّا ما كان ذلك المجتمع، ومن هنا جاء عدم اعتراضه بالدولة في شكلها التقليدي البرجوازي، سواء كان شكل هذه أو ليجارشيا، أو ديمقراطياً رأسمالياً باعتبار أنه لا يُقر هذه الأشكال جميعاً.
وفي هذا السياق جاء في دائرة المعارف الاجتماعية في مفهوم الدولة بأنها: أداة السلطة السياسية في المجتمع الطبقي، وأما الدولة الاشتراكية فهي دولة عموم الشعب وهي الهيئة السياسية للشعب بأسره، وأداة لبناء الشيوعية وجعل الطبقة العاملة هي القاعدة العامة لعموم الشعب.
والخلاصة: هي أن الفكر الاشتراكي يرى أن الدولة شكل تاريخي للتنظيم السياسي للمجتمع، وأنها نشأت مع ظهور الملكية الخاصة، وانقسام المجتمع إلى طبقات يستغل بعضها بعضاً.
فهذا هو مفهوم الدولة في الفكر الشيوعي الاشتراكي وهو مفهوم يستبعد البعد الديني والعقدي وذلك راجع إلى موقف الشيوعية أصلاً من الأديان عموماً والتي ترى أنها أفيون الشعوب، وسبب التخلف للعقل البشري، وغير ذلك من عبارات الشيوعية والاشتراكية في موقفها المعادي والمحارب للدين، كما هو معروف سلفاً.
الدولة في الفكر الليبرالي:
وأما الدولة عند التيار الليبرالي فإنها تتميز بخمس خصائص:
أن الدولة مجموعة مؤسسات منفصلة يمكن التمييز فيها بين العام والخاص.
1- أن تتمتع بالسيادة والسلطة العليا في أراضيها.
2- السيادة شاملة ومتساوية لكل الذين يشغلون مناصب رسمية في الجهاز الحاكم.
3- يتم تجنيد العاملين فيها وتدريبهم.
4- قدرة الدولة على تحصيل الإيرادات لتمويل انشطتها.
فهذه الخصائص هي السمات التي يتفق المؤرخون، ومعظم علماء الاجتماع على أنها تميز الدولة الحديثة.
فالدولة في أوسع معانيها في الفكر الليبرالي الحديث هي عبارة عن مفهوم قانوني يصف جماعة ما تقيم في رقعة جغرافية محددة، وتنظم جهودها وإمكانياتها في إطار مؤسسات سياسية تديرها هيئة حاكمة فعالة تسيطر على دفة الأمور.
المصادر والمراجع:
• ابن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك دار التراث، 1387ه، (4/ 124).
• ثروت بدوي، النظم السياسية، ص: 24.
• علي الصلابي، الدولة المسلمة الحديثة، ص 30-36.
• ماجد علي الزميع، الدولة المدنية، مدار الهدى النبوي، 1434ه، ص: 32